💔 قِصَّةُ نَدَمٍ: عِطْرُ الثَّوْمِ وَبَرِيقُ النَّدَمِ

💔 قِصَّةُ نَدَمٍ: عِطْرُ الثَّوْمِ وَبَرِيقُ النَّدَمِ

 زَوْجَتِي تَنْزِلُ مِنْ سَيَّارَةٍ فَاخِرَةٍ، كَادَ نَفَسِي يَنْقَطِعُ. أَنَا الَّذِي أَخْرَجْتُهَا بِيَدِي مِنْ ذَلِكَ الْبَيْتِ، لِمَاذَا؟ لِأَنَّ رَائِحَةَ الثَّوْمِ وَالزَّنْجَبِيلِ

ط كَانَتْ تَفُوحُ مِنْ ثِيَابِهَا، وَلِأَنَّهَا كَانَتْ تَبْدُو مُتْعَبَةً فِي كُلِّ وَقْتٍ. وَهَا هِيَ الْيَوْمَ تَنْزِلُ مِنْ سَيَّارَةٍ تَتَجَاوَزُ خَيَالِي. حِينَئِذٍ أَدْرَكْتُ أَنَّ الْخَطَأَ لَمْ يَكُنْ خَطَأَهَا، بَلْ خَطَئِي أَنَا. أَحْيَانًا لَا تَنْتَهِي الْمَحَبَّةُ، لَكِنَّ تَعَبَ الْحَيَاةِ الْيَوْمِيَّةِ يَخْنُقُهَا.

زَوَاجِي لَمْ يُكْمِلْ ثَلَاثَ سَنَوَاتٍ، وَمَعَ ذَلِكَ شَعَرْتُ أَنَّنِي سَجِينٌ. كَانَتْ تَقُومُ مِنَ الصَّبَاحِ تَغْسِلُ الْأَوَانِي وَتَكْنُسُ، ثُمَّ تَطْبُخُ وَتُعِدُّ الْخُبْزَ وَتَنْشُرُ الثِّيَابَ، وَتَظَلُّ حَتَّى الْمَسَاءِ. اِمْرَأَةٌ مُتْعَبَةٌ تَجْلِسُ أَمَامِي، رَائِحَةُ الثَّوْمِ وَالزَّنْجَبِيلِ تَنْبَعِثُ مِنْ مَلَابِسِهَا. فَأَصْمُتُ، لَكِنَّ شَيْئًا فِي دَاخِلِي يَنْكَسِرُ حِينَ تَقْتَرِبُ مِنِّي بِابْتِسَامَةٍ. لَا أَشْعُرُ بِالسَّكِينَةِ بَلْ بِالثِّقَلِ. كُنْتُ أَخْتَنِقُ مِنْ أَجْوَاءٍ لَا ذَنْبَ لَهَا فِيهَا. كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهَا تَعْمَلُ طَوَالَ الْيَوْمِ، لَكِنَّ بَسَاطَتَهَا بَدَتْ لِي بِلَا أَلْوَانٍ. تِلْكَ الْمَرْأَةُ الَّتِي أَحْبَبْتُهَا صَارَتْ تُبْعِدُنِي عَنْ نَفْسِي. عِطْرُ يَدَيْهَا تَحَوَّلَ إِلَى عَرَقِ الْبَهَارَاتِ، وَحَدِيثُهَا صَارَ تَعَبًا لَا حَلَاوَةَ فِيهِ. صَمْتُهَا كَانَ كَصَرْخَةٍ مَكْتُومَةٍ تُرْهِقُنِي. كَانَتْ تَنْتَظِرُنِي كُلَّ لَيْلَةٍ، وَأَنَا مَشْغُولٌ بِهَاتِفِي. إِذَا اقْتَرَبَتْ مِنِّي تَحَجَّجْتُ وَغَادَرْتُ.

كُنْتُ أَرَى أَنَّ عَلَيَّ الْبَحْثَ عَنْ حَيَاةٍ جَدِيدَةٍ، حَيَاةٍ بِلَا رَائِحَةٍ وَلَا تَعَبٍ وَلَا رُوتِينٍ، حَيَاةٍ فِيهَا بَرِيقٌ جَدِيدٌ وَعِطْرٌ جَدِيدٌ. وَكُنْتُ أَقِفُ عَلَى ذَلِكَ الْمُنْعَطَفِ الَّذِي يَقِفُ عِنْدَهُ كَثِيرٌ مِنَ الرِّجَالِ حِينَ يَتْرُكُونَ مَحَبَّتَهُمُ الْقَدِيمَةَ وَيَسْعَوْنَ وَرَاءَ دُنْيَا بَرَّاقَةٍ. كَانَ يَوْمًا عَادِيًّا، لَكِنَّ صَبْرِي نَفَدَ. مُنْذُ الصَّبَاحِ وَهِيَ فِي الْمَطْبَخِ، وَرَائِحَةُ الْمَرَقِ الْحَادَّةُ تَمْلَأُ الْبَيْتَ. وَحِينَ دَخَلَتْ عَلَيَّ بِثِيَابِهَا تَفُوحُ مِنْهَا تِلْكَ الرَّائِحَةُ الْمَعْهُودَةُ الَّتِي لَمْ أَعُدْ أُطِيقُهَا، أَدَرْتُ وَجْهِي. لَكِنَّهَا اقْتَرَبَتْ مِنِّي بِفَرَحٍ قَائِلَةً: الْيَوْمَ صَنَعْتُ طَعَامَكَ الْمُفَضَّلَ. أَمْسَكْتُ ذِرَاعَهَا دُونَ كَلَامٍ وَدَفَعْتُهَا بِقَسْوَةٍ خَارِجَ الْغُرْفَةِ. نَظَرَتْ إِلَيَّ بِدَهْشَةٍ، كَأَنَّهَا لَمْ تَتَصَوَّرْ يَوْمًا أَنَّنِي أَفْعَلُ ذَلِكَ. جَلَسَتْ عَلَى الْأَرْضِ تَبْكِي بِحُرْقَةٍ كَالْأَطْفَالِ. كَانَتْ زَوْجَتِي، شَرِيكَةُ حَيَاتِي الَّتِي تَرَكَتْ كُلَّ شَيْءٍ لِأَجْلِي، لَكِنِّي أَغْلَقْتُ فِي وَجْهِهَا بَابَ قَلْبِي. بَقِيتُ صَامِتًا مُنْشَغِلًا بِهَاتِفِي، وَأَصْوَاتُ شَهَقَاتِهَا تَخْتَرِقُ أُذُنِي. تَبْكِي وَتَنْتَحِبُ، وَأَنَا مُضْطَرِبٌ مِنَ الدَّاخِلِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ أَخْرُجْ إِلَيْهَا، لَمْ أَنْظُرْ إِلَيْهَا. كَسَرْتُ اِمْرَأَةً لَمْ تَسْأَلْنِي يَوْمًا، لَمْ تَشْكُ، بَلْ كَانَتْ تَحْرِصُ عَلَيَّ. لَكِنِّي رَمَيْتُهَا بِتُهْمَةِ أَنَّهَا اِمْرَأَةٌ ذَاتُ رَائِحَةٍ كَرِيهَةٍ. لَمْ أَعْلَمْ أَنَّ تِلْكَ الرَّائِحَةَ الَّتِي كَرِهْتُهَا كَانَتْ عَبِيرَ الْمَحَبَّةِ الَّذِي خَرَجَ الْآنَ مِنْ بَيْتِي.

بَعْدَ أَسَابِيعَ قَلِيلَةٍ مِنْ إِخْرَاجِهَا، اِتَّخَذْتُ قَرَارًا كُنْتُ أَظُنُّهُ بِدَايَةً جَدِيدَةً لِحَيَاتِي. اِخْتَرْتُ فَتَاةً عَصْرِيَّةً، مُتَعَلِّمَةً، تَفُوحُ بِالْعُطُورِ، تَرْتَدِي أَغْلَى الثِّيَابِ، تَنْتَمِي لِعَالَمٍ آخَرَ. مُنْذُ اللِّقَاءِ الْأَوَّلِ سَحَرَنِي أُسْلُوبُهَا. اِبْتَسَمَتْ فَخُيِّلَ إِلَيَّ أَنَّ السَّكِينَةَ كُلَّهَا أَمَامِي. سَارَعْتُ بِالزَّوَاجِ مِنْهَا مُعْتَقِدًا أَنَّنِي وَجَدْتُ الرَّاحَةَ، وَأَنَّنِي لَنْ أَرَى بَعْدَ الْيَوْمِ تِلْكَ الْمَرْأَةَ الْمُتْعَبَةَ الَّتِي تَفُوحُ مِنْهَا رَائِحَةُ الثَّوْمِ وَالزَّنْجَبِيلِ. لَكِنْ مَا إِنْ دَخَلَتْ بَيْتِي حَتَّى بَدَأَ كُلُّ شَيْءٍ يَتَبَدَّلُ.

فِي لَهْجَتِهَا قَسْوَةٌ وَكِبْرِيَاءٌ. تُنَادِينِي بِاسْمِي كَأَنَّنِي مُجَرَّدُ رَفِيقٍ لَا زَوْجٌ. فِي كَلَامِهَا أَخْذٌ وَعَطَاءٌ، وَفِي اِبْتِسَامَتِهَا تَصَنُّعٌ، وَفِي عَيْنَيْهَا بَرِيقٌ بَارِدٌ. تَجْلِسُ مَعِي وَهِيَ مَشْغُولَةٌ بِهَاتِفِهَا، تَسْمَعُنِي كَأَنَّهَا مُضْطَرَّةٌ. تَأْنَفُ مِنْ أَعْمَالِ الْبَيْتِ وَالْمَطْبَخِ، فَعِنْدَهَا لِلْخَادِمَاتِ. لِقَاؤُهَا بِأُمِّي وَأَخَوَاتِي مُجَرَّدُ وَاجِبٍ.

كَثِيرًا مَا كُنْتُ أَسْتَيْقِظُ فِي اللَّيْلِ وَأُفَكِّرُ: هَلْ هَذِهِ حَقًّا هِيَ الْمَرْأَةُ الَّتِي كَسَرْتُ بَيْتِي مِنْ أَجْلِهَا؟ هَلْ هَذَا هُوَ الْعِطْرُ الَّذِي فَضَّلْتُهُ عَلَى رَائِحَةِ الثَّوْمِ وَالزَّنْجَبِيلِ؟ وُجُودُهَا لَمْ يُدْفِئْ قَلْبِي، بَلْ تَرَكَ فَرَاغًا.

أُمِّي الَّتِي كَانَتْ سَبَبًا فِي خُرُوجِ زَوْجَتِي الْأُولَى، وَالَّتِي كَانَتْ دَائِمًا تَعِيبُ سَذَاجَتَهَا، هِيَ نَفْسُهَا الْيَوْمَ تَقِفُ عَلَى بَابِ غُرْفَتِي تَشْكُو بِحَنَقٍ، وَوَجْهُهَا يَتَوَهَّجُ غَضَبًا. كَانَتْ تَقُولُ: "هَذِهِ الْفَتَاةُ لَا تَنْفَعُنَا بِشَيْءٍ، لَا تَسْتَيْقِظُ بَاكِرًا، لَا تُسَاعِدُ فِي شَيْءٍ، لَا تَجْلِسُ مَعَنَا، لَا تُرَاعِي أَحَدًا. كَأَنَّكَ لَمْ تَتَزَوَّجْ إِلَّا عَارِضَةَ أَزْيَاءٍ لَا تَهْتَمُّ إِلَّا بِنَفْسِهَا." كَلَامُ أُمِّي كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الْأَلَمِ وَالسُّخْرِيَةِ، وَفِي عَيْنَيْهَا تِلْكَ الْمَرَّةَ رَأَيْتُ عَجْزًا لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا يَوْمَ وَدَّعْنَا الْأُولَى.

أَخَوَاتِي أَيْضًا لَمْ يَعُدْنَ سَاكِتَاتٍ، يَقُلْنَ: مَهْمَا قِيلَ، الْأُولَى كَانَتْ تَخْدِمُنَا، كُنَّا نَجِدُ طَعَامًا فِي وَقْتِهِ، وَكَانَتْ تَجْلِسُ مَعَ أُمِّي تُسَاعِدُ وَتُوَاسِي. أَمَّا هَذِهِ فَهِيَ ضَيْفَةٌ لَا 

تَهْتَمُّ بِأَحَدٍ.

قَلْبِي بَدَأَ يَضْطَرِبُ بَيْنَ كِبْرِيَائِي وَمَرَارَةِ الْحَقِيقَةِ. أَمَّا تِلْكَ الْمَرْأَةُ الَّتِي حَسِبْتُهَا

 حُلْمًا، فَقَدْ تَحَوَّلَتْ إِلَى جُرْحٍ لَا يَصْرُخُ بَلْ يَنْزِفُ صَامِتًا. فِي كُلِّ صَبَاحٍ أُوَاجِهُ وَجْهَهَا الْمُتَجَهِّمَ وَانْشِغَالَهَا الدَّائِمَ بِالْهَاتِفِ. لَا تَرْضَى بِشَيْءٍ. إِنْ حَدَّثْتُهَا رَدَّتْ بِبُرُودٍ وَسُخْرِيَةٍ.

مَرَّةً طَلَبْتُ مِنْهَا أَنْ تَصْنَعَ شَايًا لِأُمِّي، فَقَالَتْ: "هَلْ أَنَا خَادِمَةٌ فِي بَيْتِكُمْ؟ لَا شَأْنَ لِي بِمَا تَظُنُّ أُمُّكَ." حَاوَلْتُ أَنْ أُهَدِّئَهَا بِابْتِسَامٍ، لَكِنَّهَا أَجَابَتْ بِصَوْتٍ مُرْتَفِعٍ: "أَنْتُمْ لَا تُرِيدُونَ زَوْجَةً بَلْ خَادِمَةً." لَمْ تَكْتَفِ بِجَرْحِ أُمِّي، بَلْ صَارَتْ تُهِينُنِي أَيْضًا. تَكَلَّمَتْ مَعِي كَمَا لَوْ كُنْتُ خَادِمًا.

ذَاتَ يَوْمٍ قُلْتُ لَهَا: اِكْوِي ثِيَابِي. فَقَالَتْ: "مَا دُمْتَ قَادِرًا عَلَى الْحَرَكَةِ فَلِمَاذَا لَا تَكْوِيهَا بِنَفْسِكَ؟ أَنْتَ زَوْجٌ لَسْتَ عَبْدًا." ثُمَّ دَخَلَتْ غُرْفَتَهَا وَأَغْلَقَتِ الْبَابَ بِعُنْفٍ.

جَلَسْتُ عَلَى الْأَرِيكَةِ أَتَنَهَّدُ، وَأَتَذَكَّرُ لَحَظَاتِ زَوْجَتِي الْأُولَى؛ كَيْفَ كَانَتْ بِصَمْتِهَا تَسْبِقُنِي بِخِدْمَتِي. ثِيَابِي مَكْوِيَّةٌ فِي وَقْتِهَا، حِذَائِي مُلَمَّعٌ، نِعَالُ الْبَابِ، وَكُوبُ الشَّايِ فِي يَدِي كَأَنَّهُ رَاحَةٌ لِقَلْبِي. لَكِنِّي تَجَاهَلْتُ كُلَّ ذَلِكَ، دَفَعْتُهُ جَانِبًا وَوَصَفْتُهُ بِالْقُبْحِ. وَالْيَوْمَ، الَّذِي حَسِبْتُهُ عِطْرًا يَحْرِقُنِي، حَدَّتْ كَلِمَاتُهَا كَالْمَسَامِيرِ فِي صَدْرِي.

عُدْتُ يَوْمًا مِنْ عَمَلِي، فَإِذَا بِهَا عَلَى السَّرِيرِ مُسْتَرْخِيَةً تُشَاهِدُ مُسَلْسَلًا عَلَى هَاتِفِهَا. قُلْتُ: أَعْطِينِي طَعَامًا. فَأَجَابَتْ: "اُطْلُبْ مِنَ الْخَارِجِ، لَسْتُ فِي مِزَاجٍ لِأَخْدُمَكَ." ثُمَّ ضَحِكَتْ بِصَوْتٍ عَالٍ.

نَظَرْتُ إِلَيْهَا صَامِتًا، وَأَخَذْتُ أُفَكِّرُ: هَلْ حَقًّا أَخْطَأْتُ الْقَرَارَ؟ هَلْ كَانَتْ تِلْكَ الْمَرْأَةُ الَّتِي أَبْعَدْتُهَا عَنِّي فَقَطْ لِأَنَّهَا بَسِيطَةٌ وَتَعْمَلُ فِي الْبَيْتِ، هِيَ فِي الْحَقِيقَةِ سَعَادَتِي الْحَقِيقِيَّةُ وَسِرُّ سُكُونِي؟ لَقَدِ اخْتَرْتُ الظَّلَامَ لِمُجَرَّدِ أَنَّنِي اِنْبَهَرْتُ بِالْبَرِيقِ، وَالْآنَ ذَلِكَ الظَّلَامُ يَأْكُلُنِي مِنَ الدَّاخِلِ.

زَوْجَتِي الْجَدِيدَةُ بِلِسَانِهَا الْجَارِحِ تَجْرَحُ قَلْبِي كُلَّ يَوْمٍ، فَهِيَ لَيْسَتْ قَاسِيَةً فَقَطْ بَلْ جَاحِدَةٌ أَيْضًا. لَا تَشْكُرُ مَالِي وَلَا وَقْتِي وَلَا صُحْبَتِي. وَكُلَّ لَيْلَةٍ أَنَامُ وَأَنَا أَتَسَاءَلُ: هَلْ هُنَاكَ طَرِيقٌ لِإِصْلَاحِ هَذَا الْخَطَأِ، أَمْ أَنَّ الْأَوَانَ قَدْ فَاتَ؟

تَغَيَّرَ كُلُّ شَيْءٍ فِي الْبَيْتِ. لَمْ تَعُدْ رَائِحَةُ الطَّعَامِ تَمْلَأُ الْأَرْجَاءَ كَمَا فِي السَّابِقِ، بَلْ أَصْوَاتُ عُلَبِ الْبْلَاسْتِيكِ حِينَ يَأْتِي الطَّعَامُ مِنَ الْخَارِجِ يُوضَعُ عَلَى الْمَائِدَةِ دُونَ أَنْ يَهْتَمَّ أَحَدٌ بِمَنْ أَكَلَ وَمَنْ لَمْ يَأْكُلْ. لَمْ تَعُدْ هُنَاكَ رَائِحَةُ الْخُبْزِ السَّاخِنِ الَّتِي كَانَتْ تُطَمْئِنُ قَلْبِي عِنْدَ الْمَسَاءِ، بَلْ أَصْبَحَتْ مُجَرَّدَ ذِكْرَى. لَمْ يَعُدْ هُنَاكَ ضَوْءُ النَّارِ فِي الْمَطْبَخِ، وَلَا طَرْقُ الْقُدُورِ، وَلَا تِلْكَ الرَّائِحَةُ الْقَوِيَّةُ لِلثَّوْمِ وَالزَّنْجَبِيلِ الَّتِي كُنْتُ أَضِيقُ بِهَا وَقَدْ ضَحَّيْتُ بِكُلِّ شَيْءٍ مِنْ أَجْلِ الْهَرَبِ مِنْهَا. وَالْآنَ لَمْ تَعُدْ تِلْكَ الرَّائِحَةُ مَوْجُودَةً، لَكِنْ لَمْ تَعُدِ الْمَحَبَّةُ أَيْضًا الَّتِي كَانَتْ تَرْبِطُنِي بِهَا.

مِنْ غُرْفَةِ زَوْجَتِي الْجَدِيدَةِ تَفُوحُ رَائِحَةُ الْعِطْرِ، لَكِنَّهَا لَا تَهَبُنِي السَّكِينَةَ الَّتِي كُنْتُ أَجِدُهَا فِي أَيَّامٍ مَضَتْ. أَحْيَانًا وَأَنَا جَالِسٌ يَهْمِسُ لِي قَلْبِي: لَيْتَ الضَّجِيجَ يَعُودُ! لَيْتَ التَّعَبَ يَعُودُ! لَيْتَ تِلْكَ الِابْتِسَامَةَ الْخَفِيفَةَ لِزَوْجَتِي الْأُولَى تَعُودُ. كُنْتُ فِيمَا مَضَى أَفِرُّ مِنْ رَائِحَةِ الثَّوْمِ الْقَوِيَّةِ، وَالْيَوْمَ أَشْتَاقُ إِلَيْهَا حَتَّى فِي غِيَابِهَا. كُلُّ شَيْءٍ بَاتَ بِلَا طَعْمٍ، وَزَوَايَا الْبَيْتِ كُلُّهَا فَارِغَةٌ. زَوْجَتِي الْجَدِيدَةُ لَا تَرَى الْمَطْبَخَ مِنْ شَأْنِهَا، بَيْنَمَا زَوْجَتِي الْأُولَى لَمْ تَشْتَكِ يَوْمًا. صَنَعَتْ بِيَدَيْهَا طَعَامًا مَا زَالَتْ رَائِحَتُهُ تَسْكُنُ أَنْفَاسِي.

الْيَوْمَ حِينَ أَعُودُ لَيْلًا، عَلَيَّ أَنْ أُسَخِّنَ الطَّعَامَ بِنَفْسِي فِي الْمَايْكْرُوِيفِ، فَلَا أَحَدَ يَسْتَقْبِلُنِي عَلَى الْبَابِ، وَلَا أَحَدَ يَسْأَلُنِي: هَلْ تَعِبْتَ؟ هَلْ أَصْنَعُ لَكَ شَايًا؟ لَا يَدٌ تَمْتَدُّ إِلَيَّ وَلَا عُيُونٌ تُحَدِّثُنِي. صَارَ بَيْتِي مُمْتَلِئًا بِكُلِّ شَيْءٍ، لَكِنَّهُ خَالٍ بِجِدَارٍ مِنَ الْفَرَاغِ يَذْكُرُنِي فِي كُلِّ لَحْظَةٍ بِالْعِطْرِ الَّذِي ظَنَنْتُهُ نَتِنًا وَطَرَدْتُهُ مِنْ حَيَاتِي.

فِي يَوْمٍ اِتَّصَلَتِ الْخَادِمَةُ لِتُخْبِرَنِي أَنَّهَا لَنْ تَأْتِي، لَدَيْهَا أَمْرٌ مُهِمٌّ. أَجَبْتُهَا: لَا بَأْسَ. وَحِينَ عَمَّ صَمْتُ الْمَطْبَخِ، سَمِعْتُ صَوْتَ أُمِّي تَسْأَلُ: "يَا بُنَيَّ، مَنْ سَيَطْبُخُ الْيَوْمَ؟ فَزَوْجَتُكَ لَا تَلْمِسُ شَيْئًا." قُلْتُ: لَا بَأْسَ، نَطْلُبُ مِنَ الْخَارِجِ. فَقَالَتْ أُمِّي بِحَسْرَةٍ: "هَلْ سَنَأْكُلُ مِنَ الْخَارِجِ كُلَّ يَوْمٍ؟ طَعَامُ الْبَيْتِ نِعْمَةٌ." فَسَكَتُّ. ثُمَّ جَاءَتْ أُخْتِي وَقَالَتْ: "حَتَّى الثِّيَابُ لَمْ تُكْوَ، وَالشَّايُ الصَّبَاحِيُّ لَمْ يَصْنَعْهُ أَحَدٌ."

عِنْدَهَا نَظَرْتُ بِلَا وَعْيٍ إِلَى بَابِ الْمَطْبَخِ، وَسَمِعْتُ صَوْتًا مِنْ دَاخِلٍ يَقُولُ: لَوْ كَانَتْ هُنَا لَكَانَ الشَّايُ حَاضِرًا، وَالطَّعَامُ يَغْلِي عَلَى النَّارِ. أُمِّي لَمْ تَتَوَقَّفْ عَنِ الْقَوْلِ: "زَوْجَتُكَ الْأُولَى كَانَتْ نَافِعَةً. بَسِيطَةٌ نَعَمْ، لَكِنَّهَا تَخْدِمُ مِنْ قَلْبِهَا. لَمْ تَصْرُخْ يَوْمًا، لَمْ نَحْتَجْ أَنْ نُنَادِيَهَا لِتَعْمَلَ شَيْئًا. وَالْيَوْمَ زَوْجَتُكَ هَذِهِ مُنْغَلِقَةٌ فِي غُرْفَتِهَا كَأَنَّهَا تَتَفَضَّلُ عَلَيْنَا جَمِيعًا بِوُجُودِهَا."

دَخَلْتُ غُرْفَتَهَا فَوَجَدْتُهَا عَلَى السَّرِيرِ مُنْشَغِلَةً بِهَاتِفِهَا. قُلْتُ لَهَا: اِصْنَعِي شَايًا لِأُمِّي. فَقَالَتْ فَوْرًا: "أَنْتُمْ لَا تُفَكِّرُونَ إِلَّا فِي الْأَعْمَالِ! أَلَا تَرَوْنَ صِحَّتِي؟" عِنْدَهَا نَفَدَ صَبْرِي وَعُدْتُ إِلَى الْأَرِيكَةِ صَامِتًا. جَلَسْتُ أُفَكِّرُ فِي تِلْكَ الْمَرْأَةِ الَّتِي تَرَكْتُهَا مِنْ أَجْلِ بَسَاطَتِهَا، وَالَّتِي أَشْتَاقُ إِلَيْهَا الْيَوْمَ فِي كُلِّ نَفَسٍ: طَعَامُهَا، صَمْتُهَا، تَرْتِيبُهَا لِكُلِّ شَيْءٍ. غِيَابُ الْخَادِمَةِ يَوْمًا وَاحِدًا هَزَّ الْبَيْتَ كُلَّهُ، وَأَشْعَرَ الْجَمِيعَ بِأَنَّ مَنْ حَسِبْنَاهَا عَادِيَةً كَانَتْ فِي الْحَقِيقَةِ سَنَدَنَا. لِأَوَّلِ مَرَّةٍ شَعَرْتُ بِالنَّدَمِ الْحَقِيقِيِّ.

وَمُنْذُ أَيَّامٍ، فِكْرَةٌ وَاحِدَةٌ تَسْكُنُ قَلْبِي: أَنْ أُعِيدَ زَوْجَتِي الْأُولَى. أُمِّي رَضِيَتْ وَأَخَوَاتِي أَيْضًا صِرْنَ يَقُلْنَ: الرَّاحَةُ كَانَتْ مَعَهَا. أَمَّا زَوْجَتِي الْجَدِيدَةُ فَقَدْ خَيَّبَتْ آمَالَ الْجَمِيعِ، وَأَنَا تَحَطَّمْتُ مِنَ الدَّاخِلِ. اِتَّخَذْتُ الْقَرَارَ أَخِيرًا، رَغْمَ خَجَلِي وَمَرَارَةِ قَلْبِي، أَنْ أَذْهَبَ إِلَيْهَا.

طَوَالَ الطَّرِيقِ كُنْتُ أُفَكِّرُ: كَيْفَ سَأُكَلِّمُهَا؟ هَلْ سَتَصْمُتُ حِينَ تَرَانِي؟ أَمْ سَتَبْكِي وَتَقُولُ: أَخِيرًا عَرَفْتَ قَدْرِي؟ أَمْ رُبَّمَا سَتُغْلِقُ الْبَابَ فِي وَجْهِي؟ رُبَّمَا تُعَاتِبُنِي وَرُبَّمَا تُوَافِقُ بِصَمْتٍ كَمَا كَانَتْ دَوْمًا تَصْبِرُ وَتَتَحَمَّلُ.

حِينَ وَصَلْتُ إِلَى بَابِهَا، كَانَ قَلْبِي يَخْفِقُ بِشِدَّةٍ، وَالْخَجَلُ بَادٍ عَلَى وَجْهِي. كَانَتْ أَمْطَارٌ خَفِيفَةٌ تَتَسَاقَطُ، وَكَانَ ذَلِكَ الْمَشْهَدُ يُبَلِّلُ دَاخِلِي كُلَّهُ. وَمَا إِنْ فُتِحَ الْبَابُ حَتَّى تَجَمَّدَ نَفَسِي، إِذْ رَأَيْتُهَا أَمَامِي بِمَلَابِسَ أَنِيقَةٍ، بِوَجْهٍ شَامِخٍ وَعَيْنَيْنِ صَافِيَتَيْنِ تَلْمَعُ فِيهِمَا الثِّقَةُ، وَعَلَى شَفَتَيْهَا اِبْتِسَامَةٌ رَقِيقَةٌ كَأَنَّهَا تَحْمِلُ الْكَثِيرَ مِنَ الْكَلَامِ، لَكِنَّهَا لَا تَرَى ضَرُورَةً لِبَوْحِهِ.

لَمْ تَكُنْ هِيَ نَفْسُهَا الَّتِي تَرَكْتُهَا. لَمْ تَكُنْ بَسِيطَةً وَلَا ضَعِيفَةً وَلَا صَامِتَةً. خَلْفَهَا كَانَتْ تَقِفُ سَيَّارَةٌ فَاخِرَةٌ بِمَلَايِينِ، وَعَلَى الْبَابِ حَقِيبَةٌ صَغِيرَةٌ كَأَنَّهَا تَسْتَعِدُّ لِلسَّفَرِ.

خَفَضْتُ بَصَرِي وَقُلْتُ بِصَوْتٍ خَافِتٍ: "جِئْتُ لِأَطْلُبَ مِنْكِ السَّمَاحَ. أَعْلَمُ أَنَّنِي لَمْ أُؤْذِكِ أَنْتِ، بَلْ جَرَحْتُ رُوحَكِ، وَوَصَفْتُ إِخْلَاصَكِ بِالنَّتَنِ، وَتَجَاهَلْتُ صَفَاءَكِ." بَقِيَتْ صَامِتَةً لَحَظَاتٍ، ثُمَّ قَالَتْ بِلُطْفٍ: "الزَّمَنُ يُعَلِّمُ الْكَثِيرَ، وَأَنْتَ عَلَّمْتَنِي مَا لَمْ يَكُنْ أَيُّ وَعْظٍ قَادِرًا عَلَى أَنْ يُعَلِّمَ. الْيَوْمَ عَرَفْتُ نَفْسِي، وَلَمْ أَعُدْ بِحَاجَةٍ لِأَنْ أَعِيشَ فِي ظِلِّ أَحَدٍ." ثُمَّ اِسْتَدَارَتْ نَحْوَ سَيَّارَتِهَا وَتَرَكَتْنِي جَامِدًا مَكَانِي.

كُنْتُ مَكْسُورًا، فَقَدْتُ كُلَّ مَا كَانَ يَوْمًا عَالَمِي، وَمَا كُنْتُ أَرَاهُ تَافِهًا صَارَ أَغْلَى مَا فِي حَيَاتِي، لَكِنَّهُ اِبْتَعَدَ إِلَى غَيْرِ رَجْعَةٍ.

وَقَفْتُ عَلَى الْبَابِ بِقَلَقٍ دَاخِلِيٍّ، أَتَمَزَّقُ بَيْنَ خَجَلِي وَأَمَلِي أَنْ تَغْفِرَ لِي، وَبَيْنَ خَوْفٍ عَمِيقٍ كَانَ يَهْمِسُ دَاخِلِي: كُلُّ شَيْءٍ تَبَدَّلَ وَلَنْ يَعُودَ. ضَغَطْتُ زِرَّ الْجَرَسِ. وَبَعْدَ لَحَظَاتٍ فُتِحَ الْبَابُ وَكَانَ الْمَشْهَدُ يُوقِفُ أَنْفَاسِي. وَقَفَتْ أَمَامِي، لَكِنَّهَا لَمْ تَعُدْ تِلْكَ الَّتِي تَرَكْتُهَا. هُنَاكَ سَيَّارَةٌ بَرَّاقَةٌ غَالِيَةٌ تَقِفُ، خَرَجَتْ مِنْهَا بِخُطُوَاتٍ وَاثِقَةٍ وَعُيُونٍ يَمْلَؤُهَا الِاعْتِدَادُ. كَانَتْ تَرْتَدِي زِيًّا مِهْنِيًّا، وَعَلَى رَأْسِهَا حِجَابٌ خَفِيفٌ مُرَتَّبٌ، حِذَاؤُهَا ثَمِينٌ وَحَقِيبَتُهَا أَنِيقَةٌ، وَمِشْيَتُهَا تَحْمِلُ كِبْرِيَاءَ هَزَّ قَلْبِي. لَمْ تَتَوَقَّفْ عِنْدِي بَلْ وَاصَلَتِ السَّيْرَ، وَفِي يَدِهَا حَقِيبَةُ حَاسُوبٍ وَمِفْتَاحُ السَّيَّارَةِ، كَأَنَّهَا عَائِدَةٌ مِنْ اِجْتِمَاعٍ أَوْ تُمَثِّلُ عَالَمًا جَدِيدًا تَمْلِكُهُ. لَمْ تَعُدْ تِلْكَ الْمَرْأَةُ الَّتِي تَرَكْتُهَا يَوْمًا فِي الْمَطْبَخِ بِرَائِحَةِ الْبَهَارَاتِ، بَلْ غَدَتْ هُوِيَّةً قَائِمَةً بِذَاتِهَا. لَمْ تَعُدْ عَيْنَاهَا صَامِتَتَيْنِ بِالْخِذْلَانِ، بَلْ بِالصَّمْتِ الْمَمْزُوجِ بِالْكَرَامَةِ. لَمْ يَكُنْ فِي مَلَامِحِهَا حُزْنٌ وَلَا قَسْوَةٌ، بَلْ بَرِيقُ وَقَارٍ يَلْسَعُ الْقَلْبَ.

مَرَّتْ بِجَانِبِي وَتَوَقَّفَتْ لَحْظَةً وَقَالَتْ: "بَعْضُ النَّاسِ يَرَوْنَ أَنَّ الْمَحَبَّةَ أَوْهَى مِنْ رَائِحَةِ الثَّوْمِ. وَبَعْضُ الْعَلَاقَاتِ لَا تَصِيرُ صَادِقَةً إِلَّا حِينَ لَا تَعُودُ أَبَدًا." ثُمَّ مَضَتْ وَتَرَكَتْنِي وَاقِفًا كَالْمُسَمَّرِ فِي الْأَرْضِ.

الْمَرْأَةُ الَّتِي كَانَتْ بِالْأَمْسِ تَخْدِمُنِي، صَارَتِ الْيَوْمَ مُمَثِّلَةً لِشَرِكَةٍ كُبْرَى. عِنْدَهَا أَدْرَكْتُ أَنَّ مَا خَسِرْتُهُ لَنْ يَعُودَ بِثَمَنٍ. رَأَيْتُ بِعَيْنِي كَيْفَ تَحَوَّلَتْ مَحَبَّتِي إِلَى غَرِيبَةٍ لَا تَمُتُّ لِي بِصِلَةٍ، وَعَجْزِي يَمْنَعُنِي حَتَّى مِنَ الِاقْتِرَابِ.

عُدْتُ خَالِيَ الْيَدَيْنِ. أُمِّي فَتَحَتِ الْبَابَ وَعَلَى وَجْهِهَا أَسْئِلَةٌ كَثِيرَةٌ، لَكِنَّنِي دَخَلْتُ صَامِتًا وَجَلَسْتُ عَلَى الْأَرِيكَةِ وَأَغْمَضْتُ عَيْنِي. مِنَ الْغُرْفَةِ الْمُجَاوِرَةِ كَانَتْ تَصِلُنِي أَصْوَاتُ زَوْجَتِي الْجَدِيدَةِ تَتَحَدَّثُ فِي الْهَاتِفِ بِلِسَانٍ يَقْطُرُ سُمًّا. كُنْتُ أَسْمَعُهَا تَقُولُ: "لَا أَسْتَطِيعُ الْبَقَاءَ هُنَا يَوْمًا وَاحِدًا. أَهْلُهُ عَذَابٌ لِي، وَهُوَ نَفْسُهُ لَا يَنْفَعُ لَا زَوْجًا وَلَا رَجُلًا. لَا يَعْرِفُ إِلَّا أَنْ يَأْمُرَ بِالْخِدْمَةِ، وَلَا يَعْرِفُ أَنْ يُكْرِمَ."

حِينَ سَمِعَتْ أُمِّي ذَلِكَ تَجَمَّدَتْ. ثُمَّ جَاءَتْنِي لِأَوَّلِ مَرَّةٍ بِلُطْفٍ وَقَالَتْ: "يَا بُنَيَّ، تِلْكَ الْفَتَاةُ الْبَسِيطَةُ لَمْ تَكُنْ سَيِّئَةً. كَانَتْ تَتَحَمَّلُكَ دَائِمًا، تَكْوِي ثِيَابَكَ، تُقَدِّمُ لَكَ الطَّعَامَ فِي وَقْتِهِ، تَحْمِيكَ بِظِلِّهَا، لَكِنَّنَا مَعًا اِسْتَصْغَرْنَاهَا. وَأَنَا الْيَوْمَ أَشْعُرُ بِنَدَمٍ عَمِيقٍ، فَتَصَرُّفِي مَعَهَا لَمْ يَكُنْ يَلِيقُ بِأُمٍّ."

كُنْتُ أَسْتَمِعُ لِأُمِّي، لَكِنْ دَاخِلِي كَانَ فَارِغًا. ثُمَّ جَاءَتْ زَوْجَتِي الْجَدِيدَةُ تَقِفُ أَمَامِي وَقَالَتْ: "صَرَاحَةً، أُرِيدُ الطَّلَاقَ. لَا أَسْتَطِيعُ تَحَمُّلَ هَذِهِ الْمَسْرَحِيَّةِ. لَمْ أُخْلَقْ لِخِدْمَةِ أُمِّكَ وَأَخَوَاتِكَ، وَأَنْتَ لَسْتَ الرَّجُلَ الَّذِي حَلُمْتُ أَنْ أَعِيشَ مَعَهُ. قَدَّرْتُكَ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِكَ، لَكِنَّكَ لَسْتَ كَمَا تَظْهَرُ." ثُمَّ دَخَلَتْ غُرْفَتَهَا وَأَخَذَتْ حَقِيبَتَهَا وَخَرَجَتْ.

أَنَا وَأُمِّي وَقَفْنَا مَصْدُومَيْنِ، كَأَنَّ السَّكِينَةَ دُفِنَتْ تَحْتَ التُّرَابِ. وَأَخَوَاتِي فِي زَاوِيَةِ الْغُرْفَةِ صَامِتَاتٌ، وَأَنَا لَا أُفَكِّرُ إِلَّا فِي حَيَاتِي الَّتِي أَفْسَدْتُهَا بِقَرَارَاتِي، وَأَدْرَكْتُ أَنَّهَا رُبَّمَا لَنْ تَعُودَ أَبَدًا.

جَلَسْتُ أَمَامَ مَكْتَبِهَا أَنْتَظِرُهَا، وَالدَّقَائِقُ تَمُرُّ كَأَنَّهَا دَهْرٌ، كَادَ بَدَنِي وَكَأَنَّ قَرْنًا كَامِلًا قَدْ مَرَّ. قَلْبِي كَادَ يَخْرُجُ مِنْ صَدْرِي. اِنْفَتَحَ الْبَابُ وَخَرَجَتْ هِيَ، وَفِي يَدِهَا مِلَفَّاتٌ، وَعَلَى وَجْهِهَا ذَاكَ الْوَقَارُ وَتِلْكَ الْهَيْبَةُ الَّتِي هِيَ سِمَةُ الْمَرْأَةِ النَّاجِحَةِ. نَظَرَتْ إِلَيَّ وَلَكِنَّهَا لَمْ تَتَوَقَّفْ.

جَلَسْتُ سَرِيعًا عِنْدَ قَدَمَيْهَا مُطَأْطِئَ الرَّأْسِ وَالدُّمُوعُ تَمْلَأُ عَيْنِي، وَلَمْ أَقُلْ سِوَى: "سَامِحِينِي! لَمْ أَعْرِفْ قَدْرَكِ، لَمْ أُقَدِّرْ مَحَبَّتَكِ، حَسِبْتُكِ اِمْرَأَةً عَادِيَةً، لَكِنَّكِ كُنْتِ كُلَّ شَيْءٍ. اِمْرَأَةٌ مِثْلُكِ قَادِرَةٌ أَنْ تَجْعَلَ بَيْتًا جَنَّةً، لَكِنَّنِي حَوَّلْتُ جَنَّتَكِ إِلَى جَحِيمٍ."

تَوَقَّفَتْ وَنَظَرَتْ إِلَيَّ نَظْرَةً خَالِيَةً مِنَ السُّخْرِيَةِ وَالْغَضَبِ وَالشَّفَقَةِ. لَا شَيْءَ سِوَى صَمْتٍ عَمِيقٍ. قَالَتْ: "لَمْ يَكُنِ الْغُفْرَانُ لَكَ صَعْبًا عَلَيَّ يَوْمًا. لَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ مِنْ قَلْبِي حِينَ طَرَدْتَنِي بِسَبَبِ مَلَابِسِي وَرَائِحَةِ الثَّوْمِ فِي يَدِي وَبَسَاطَتِي. لَكِنْ فِي حَيَاتِي الْآنَ لَمْ يَعُدْ لَكَ مَكَانٌ. لَقَدْ وَصَلْتُ إِلَى مَرْحَلَةٍ لَا أَبْوَابَ عَوْدَةٍ فِيهَا، بَلْ طُرُقًا لِلْمُضِيِّ قُدُمًا فَقَطْ. لَسْتُ تِلْكَ الْمَرْأَةَ الَّتِي تَتَوَقَّفُ عِنْدَ نَدَمِكَ، بَلْ أَنَا الْمَرْأَةُ الَّتِي جَمَعَتْ حُزْنَهَا وَأَلَمَهَا وَدُمُوعَهَا وَلَفَّتْهَا بِالْأَوْرَاقِ وَأَلْقَتْهَا فِي النَّارِ. لَقَدِ اِحْتَرَقْتُ وَمِنْ رَمَادِي وُلِدَتْ اِمْرَأَةٌ جَدِيدَةٌ تَفْخَرُ بِنَفْسِهَا وَلَا تَحْتَاجُ إِلَى تَوَسُّلِ أَحَدٍ." قَالَتْ هَذَا وَرَحَلَتْ.

وَبَقِيتُ جَالِسًا فِي مَكَانِي. فِي أَعْيُنِ النَّاسِ أَنَا الزَّوْجُ الَّذِي تَرَكَ زَوْجَتَهُ الْبَسِيطَةَ، وَفِي قَلْبِي فَرَاغٌ لَنْ يَمْتَلِئَ مَا حَيِيتُ. أَدْرَكْتُ الْآنَ أَنَّ الْمَحَبَّةَ لَا تُقَاسُ بِرَائِحَةِ الثَّوْمِ، بَلْ تُوزَنُ بِطِيبِ النِّيَّاتِ.

جَلَسَ الزَّوْجُ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ وَالْغُبَارُ يَكْسُو ثِيَابَهُ. عَيْنَاهُ حَمْرَاوَانِ، وَقَلْبُهُ عَاصِفَةٌ لَا يَجِدُ لَهَا صُرَاخًا. وَلِلْمَرَّةِ الْأُولَى شَعَرَ أَنَّ الْبَسَاطَةَ لَيْسَتْ قُبْحًا، بَلْ هِيَ أَلْوَانُ الْمَحَبَّةِ. تِلْكَ الرَّائِحَةُ مِنَ الثَّوْمِ وَالزَّنْجَبِيلِ الَّتِي كَانَتْ تُؤْذِيهِ، أَصْبَحَتِ الْآنَ عَبِيرًا فِي قَلْبِهِ. الطَّعْمُ الَّذِي كَانَ فِي طَعَامِ يَدَيْهَا لَا يَجِدُهُ فِي مَطَاعِمِ الدُّنْيَا. صَمْتُهَا الَّذِي كَانَ عِبْئًا صَارَ الْيَوْمَ رَاحَةً وَطُمَأْنِينَةً. عَيْنَاهَا اللَّتَانِ كَانَتَا تَسْهَرَانِ فِي اِنْتِظَارِهِ، تَنْظُرَانِ الْيَوْمَ إِلَى أَحْلَامٍ أُخْرَى. دُمُوعُهُ لَمْ تَتَوَقَّفْ. شَعَرَ أَنَّهُ سَاقِطٌ فِي التُّرَابِ، لَكِنَّ اِعْتِذَارَهُ هَذِهِ الْمَرَّةَ جَاءَ مُتَأَخِّرًا.

تِلْكَ الْمَرْأَةُ الَّتِي تَرَكَهَا لَمْ تَعُدْ قَادِرَةً أَنْ تَعُودَ، لَا بِقَلْبِهَا وَلَا بِوَقْتِهَا وَلَا بِطَرِيقِهَا. الَّتِي كَانَتْ بِالْأَمْسِ تَعْجِنُ الْخُبْزَ فِي مَطْبَخِهِ، هِيَ نَفْسُهَا الَّتِي تَتَّخِذُ الْقَرَارَاتِ فِي مَكْتَبِهَا الْيَوْمَ. الَّتِي كَانَتْ بِالْأَمْسِ صَامِتَةً، صَارَتِ الدُّنْيَا تُصْغِي إِلَى كَلِمَاتِهَا. وَالَّذِي كَانَ يَأْمُرُهَا، صَارَ يَجْلِسُ عِنْدَ قَدَمَيْهَا يَأْكُلُ خُبْزَ الذِّكْرَى بِدُمُوعِهِ. أَدْرَكَ الْآنَ أَنَّ السَّعَادَةَ الْحَقِيقِيَّةَ لَيْسَتْ فِي الثِّيَابِ الْفَاخِرَةِ وَلَا فِي الْحَدَاثَةِ الْفَارِغَةِ، بَلْ فِي دُعَاءِ الزَّوْجَةِ الْبَسِيطَةِ وَصِدْقِ خِدْمَتِهَا. تَذَكَّرَ كُلَّ شَيْءٍ، لَكِنْ يَا لَلْأَسَفِ لَقَدْ فَاتَ الْأَوَانُ.